الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : ويقال : صُرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة ، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم ، وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون ، منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة ، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام . قال ابن هشام : ويقال : عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم . قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبدالله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن ابن عباس ، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقته من حديث بدر ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ، ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنْفِلُكُموها . فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا . وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس . حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة . قال ابن إسحاق : فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، قالا : وقد رأت عاتكة بنت عبدالمطلب ، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال ، رؤيا أفزعتها . فبعث إلى أخيها العباس بن عبدالمطلب فقالت له : يا أخي ، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني ، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم عني ما أحدثك به ؛ فقال لها : وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكبا أقبل على بعير له ، حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا لَغُدُر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما هم حوله مَثَل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها : ألا انفروا يالغدر لمصارعكم في ثلاث : ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها . ثم أخذ صخرة فأرسلها . فأقبلت تهوي ، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت ، فما بقي بيت من بيوت مكة ، ولا دار إلا دخلتها منها فلقة ؛ قال العباس : والله إن هذه لرؤيا ، وأنت فاكتميها ، ولا تذكريها لأحد . ثم خرج العباس ، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وكان له صديقا ، فذكرها له ، واستكتمه إياها . فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث بمكة ، حتى تحدثت به قريش في أنديتها . قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل ، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل : يا بني عبدالمطلب ، متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قال : قلت : وما ذاك ؟ قال : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة ؛ قال : فقلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبدالمطلب ، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفُروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقا ما تقول فسيكون ، و إن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء ، نكتبْ عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب . قال العباس : فوالله ما كان مني إليه كبير ، إلا أني جحدت ذلك ، وأنكرت أن تكون رأت شيئا . قال : ثم تفرقنا . فلما أمسيت ، لم تبق امرأة من بني عبدالمطلب إلا أتتني ، فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم يكن عندك غِيَر لشيء مما سمعت ، قال : قلت : قد والله فعلت ، ما كان مني إليه من كبير . وأيم الله لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفينَّكُنَّه . قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا حديد مغضب أُرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه . قال : فدخلت المسجد فرأيته ، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ، ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلا خفيفا ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر . قال : إذ خرج نحو باب المسجد يشتد . قال : فقلت في نفسي : ما له لعنه الله ، أكلُّ هذا فَرَق مني أن أشاتمه ! قال : وإذا هو قد سمع ما لم أسمع : صوت ضمضم بن عمرو الغفاري ، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره ، قد جدع بعيره ، وحوّل رحله ، وشق قيمصه ، وهو يقول : يا معشر قريش ، اللطيمةَ اللطيمةَ ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوثَ الغوثَ . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر . فتجهز الناس سراعا ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ، كلا والله ليعلمن غير ذلك . فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا . وأوعبت قريش ، فلم يتخلف من أشرافها أحد . إلا أن أبا لهب بن عبدالمطلب تخلف ، وبعث مكانه العاصي بن هشام ابن المغيرة ، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها ، فاستأجره بها على أن يجُزئ عنه ، بعثه فخرج عنه ، وتخلف أبو لهب . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي نجيح : أن أمية بن خلف كان أجمع القعود ، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا ، فأتاه عقبة بن أبي معيط ، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه ، بمجمرة يحملها ، فيها نار ومجمر ، حتى وضعها بين يديه ، ثم قال : يا أبا علي ، استجمر ، فإنما أنت من النساء ؛ قال : قبحك الله وقبح ما جئت به ، قال : ثم تجهز فخرج مع الناس . قال ابن إسحاق : ولما فرغوا من جهازهم ، وأجمعوا المسير ، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب ، فقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا ، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر - كما حدثني بعض بني عامر بن لؤي ، عن محمد بن سعيد بن المسيَّب - في ابنٍ لحفص بن الأخيف ، أحد بني مَعيص بن عامر بن لؤي ، خرج يبتغي ضالة له بضجنان ، وهو غلام حدث في رأسه ذؤابة ، وعليه حلة له ، وكان غلاما وضيئا نظيفا ، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح ، أحد بني يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وهو بضجنان ، وهو سيد بني بكر يومئذ ، فرآه فأعجبه ؛ فقال : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا ابنٌ لحفص ابن الأخيف القرشي . فلما ولىَّ الغلام ، قال عامر بن زيد : يا بني بكر ، ما لكم في قريش من دم ؟ قالوا : بلى والله ، إن لنا فيهم لدماء ؛ قال : ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برَجُله إلا كان قد استوفى دمه . قال : فتبعه رجل من بني بكر ، فقتله بدم كان له في قريش ؛ فتكلمت فيه قريش ، فقال عامر بن يزيد : يا معشر قريش ، قد كانت لنا فيكم دماء ، فما شئتم . إن شئتم فأدوا علينا ما لنا قبلكم ، ونؤدي ما لكم قبلنا ، وإن شئتم فإنما هي الدماء : رجل برجل ، فتجافوا عما لكم قِبَلَنا ، ونتجافى عما لنا قبلكم ، فهان ذلك الغلام على هذا الحي من قريش ، وقالوا : صدق ، رجل برجل . فلهوا عنه ، فلم يطلبوا به .
|